فصل: قال محمد بن أبي بكر الرازي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكُون {مِنْ البَقَرِ} متعلِّقًا بحَرَّمْنَا الثانية.
قال أبو حيَّان: وكأنه قد توهَّم أن عَوْد الضَّمير مانِعٌ من التعَلُّق؛ إذ رُتْبَة المجرُور بمِن التَّأخِير، لكن عن ماذا؛ أما عن الفعل فَمْسَلَّم، وأما عن المَفْعُول فغير مُسَلَّم يعني: أنه إن أراد أنَّ رُتْبَة قوله: {مِنَ البَقَر} التأخير عن شُحُومَهُمَان فيصير التقدير: حرمنا عليهم شُحُومَهُما من البقر؛ فغيرمُسَلَّم، ثم قال أبو حيَّان: وإن سَلَّمْنا أن رُتْبَته التَّأخير عن الفِعْل والمفعُول، فليس بِمَمْنُوع، بل يَجُوز ذلك كما جَازَ: ضربَ غُلامَ المْرأة أبُوهَا وغُلامَ المرأة ضَرَبَ أبوها، وإن كانت رُتْبَة المفْعُول التَّأخير، لكنه وَجَبَ هنا تَقْدِيمُه؛ لعود الضَّمِير الذي في الفاعل الذي رُتْبَتُه التَّقْديم عليه، فكيف بالمَفْعُول الذي هُو والمَجْرُور في رُتْبَةٍ واحِدَةٍ؟ أعني في كَوْنَها فَضْلَه، فلا يبالي فيهما بتَقْدِيم أيَّها شِئْت على الآخَر؛ قال الشاعر: [الطويل]
-............ ** وَقَدْ رَكَدَتْ وَسَطَ السَّماءِ نُجُومُهَا

فقدَّم الظَّرْف وجوبًا؛ لعود الضَّمير الذي اتَّصل بالفَاعِل على المجْرُور بالظَّرْف.
قال شهاب الدِّين: لقائل أن يقُول: لا نُسَلِّم أن أبَا البقاء إنما مَنَع لما ذكرت، حتى يُلْزَم بما ألْزَمْتَه، بل قَدْ يَكُون منعه لأمر مَعْنَوِيِّ.
والإضافة في قوله: {شُحُومَهُما} تُفِيد الدَّلالة على تأكييد التَّخْصيص والرَّبْط، إذ لو أتى في الكلام: مِن البَقَر والغنم حرَّمْنَا عليْهم الشُّحُوم لكان في الدَّلالة على أنَّه لا يراد إلاَّ شُحُومُ البَقَر والغَنَم؛ هذا كلام أبي حيَّان وهو بَسْط ما قاله الزَّمَخْشَري؛ فإنه قال: {ومن البَقَر والغَنَم حَرَّمْنا عليهم شُحُومَهُما}؛ كقولك: مِنْ زَيْد أخَذْت مَالَهُ تريد بالإضافة زيَادة الرَّبْط.
قوله: {إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورهُمَا} {ما} مَوْصُولة في محل نَصْب على الاستِثْنَاء المُتَّصِل من الشُّحُوم، أى: إن لم يُحَرِّم الشَّحْم المَحْمُول على الظَّهْر، ثم إن شِئت جعَلْت هذا المَوْصُول نعتًا لِمَحْذُوف، أي: إلا الشَّحْم الذي حَمَلَتْهُ ظهورُهُمَا؛ كذا قدَّره أبو حيان، وفيه نظر، لأنه قد نصَّ على أنَّه بذلك غَيْرِه بذلك في مِثْل هذا التقدير: وإن شِئْت جعلْتَهُ موصُوفاٍ بشَيْءٍ محذوف، أي: إلاَّ الذي حملَتْه ظُهُورُهُما من الشَّحْم، وهذا الجَارُّ هو وَصْفٌ معنوي لا صناعي، فإنَّه لو أظْهَر كذا، لكان إعرابُه حالًا.
وقوله: {ظُهُورهما} يحتمل أن يكُون من باب قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، بالنسبة إلى ضَمِير البَقَر والغَنَم من غير نَظِر إلى جَمْعِيَّتهما في المَعْنَى، ويحتمل أن يَكُون جَمَع الظُّهُور لأنَّ المُضَافَ إليه جَمْعٌ في المَعْنَى؛ فهو مثل: قَطَعْتُ رُؤُوس الخرفان فالتِّثْنِيةَ في مثل هذا مُمْتِنِعَة.
قوله: {أو الحَوَايَا} في موضعها من الإعْراب ثلاثة أوجُه:
أحدها- وهو قول الكسائي: أنَّها في مَوْضع رفْع عَطْفًا على {ظُهُورُهما} أي: وإلاَّ الَّذي حملَتْه الحَوَاياَ من الشَّحْم، فإنه أيضًا غير مُحَرَّم، وهذا هو الظّاهِر.
الثاني أنَّها في محل نَصْبٍ نَسَقًا على {شُحُومَهُمَا} أي: حَرَّمْنا عليهم الحَوَايَا أيضًا، أو ما اخْتَلَط بعَظْم، فتكون الحوايا والمُخْتَلط مُحَرَّمين، وإلى هذا ذَهَب جماعةٌ قِليلَةٌ، وتكون أوْ فيه كَالتَّتِي في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] يُراد بها: نَفْي ما يدخُل عليه بطريق الانفِرَاد؛ كما تقول: هؤلاءِ أهْلٌ أن يُعْصَمْوا فاعْصِ هذا أو هذا فالمعنى: حرم عليهم هذا وهذا.
وقال الزَّمَخْشَرِي: أو بمنزلتها في قولهم: جَالِس الحسن أو ابن سيرين.
قال أبو حيَّان: وقال النَّحْويُّون أو في هذا المثال للإباحَةِ، فيجوز له أن يُجَالِسَهُمَا وأن يُجَالِس أحدهُمَا، والأحْسَن في الآية إذا قُلْنَا: إن {الحوايا} معطوفٌ على {شُحُومَهُمَا}، وأن تكون {أوْ} فيه للتفصيل؛ فصَّل بها ما حرَّم عليهم من البقر والغنم.
قال شهاب الدِّين: هذه العِبارة التي ذكرها الزَّمَخْشَري سبقه إليها الزَّجَّاج فإنه قال: وقال قوم: حُرِّمَت عليهم الثُّرُوب، وأحِلَّ لهم ما حَمَلَت الظُّهُور، وصارت الحوايا أو ما اخْتَلَط بعَظْم نَسَقًا على ما حَرَّم لا على الاستثناء، والمَعْنَى على هذا القول: حُرِّمت عليهم شُحُومَهُمَا أو الحوايا أو ما اختلط بعَظْمٍ، إلا ما حملت الظُّهُور فإن غير محرَّم، وأدخلت {أو} على سَبِيل الإبَاحَة؛ كما قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] والمعنى: كل هؤلاء أهْلٌ أن يُعْصَى فاعْص هذا أو اعْص هذا وأو بَلِغة في هذا المَعْنَى؛ لأنَّك إذا قُلْتَ: لا تُطِعْ زَيْدًا وعَمْرًا فجائز أن تكُون نَهَيْتَي عن طَاعَتهما معًا في حالةٍ، فإذا أطعْتُ زيدًا على حَدَته، لم أكُن عَاصيًا، وإذا قلت: لا تُطِع زَيْدًا أو عمرًا أو خالدًا، فالمعنى: أن كُلَّ هؤلاءِ أهْلٌ ألاَّ يُطَاع، فلا تُطِع واحدًا منهم، ولا تُطِع الجماعة؛ ومثله: جَالِس الحَسَنَ أو أبْنَ سيرين أو الشَّعْبي، فليس المَعنى: أني آمُرُكَ بمجَالَسَة واحدٍ منهم، فإن جَالَسْتَ واحِدًا منهم فأنْتَ مُصِيبٌ، وإن جَالَسْتَ الجماعة فأنت مُصِيبٌ.
وأمَّا قوله: فالأحْسَنُ أن تكُون أو فيه للتَّفْصِيل فقد سبقه إلى ذلك أبو البقاء فإنه قال: وأوْ هنا بِمَعْنة الواو، لتفصِيل مذاهبهم أو لاخْتِلاف أماكمنها، وقد ذَكرَناَه في قوله: {كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 135].
وقال ابن عطيَّة ردًّا على هذا القول- أعين كون الحَوَايَا نَسَقاُ على شُحُومهما: وعلى هذا تَدْخُل الحَوَايَا في التَّحْريم، وهذا قَوْلٌ لا يعضدُه لا اللَّفْظ ولا المَعْنَى بل يَدْفَعَانه ولم يبيِّن وجْه الدَّفْع فيها.
الثالث: أن {الحَوَايَا} في محلِّ نَصْبٍ عطفًا على المسْتَثْنَى وهو {ما حملت ظُهُورهُمَا} كأنه قيل: إلا ما حَمَلَت الظُّهُور أو الحَوَايا أو إلا ما اختَلَط، نققله مكِّ، وأبو البقاء بدأ به ثم قال: وقيل هو مَعْطُوف على الشُّحُوم.
ونقل الواحدي عن الفراء؛ أنَّه قال: يَجُوز أن يكُون في موضع نَصْب بتقدير حذف المضاف على أن يُريدك أو شُحُوم الحَوَايَا فَيَحذِف الشُّحُوم ويكتفي بالحوايا؛ كما قال تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] يريد أهلها، وحكى ابن الأنْبارِي عن أبي عبيد، أنه قال: قلت للفرَّاء: هو بمنزلة قول الشَّاعِر:
لا يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤنَّسُه ** باللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُوم والضُّوَعاَ

فقال لي: نَعَم، يذهب إلى أن الضُّوَع عَطْف على النَّئِيم ولم يُعْطَف على البُوم كما عُطِفت الحَوَايَا على مَا ولم تُعْطَفْ على الظُهُور.
قال شهاب الدِّين: فمقتضى ما حكاه ابن الأنْبَارِيِّ: أن تكون الحَوَايَا عَطْفًا على مَا المسْتَثْنَاه وفي مَعْنَى ذلك قلقٌ بيِّنٌ.
و{الحَوَايَا} قيل: هي المَبَاعِر، وقيل: المصَارين والأمْعَاء، وقيل: كل ما تَحْويه البَطْن فاجْتَمع واسْتَدَار، وقيل: هي الدَّوَّارة الَّتِي في بَطْن الشَّاةِ.
واختلف في مُفْرد الَحَوايَا فقيل: حَاوِيَة كضَارِبة، وقيل: حَوِيَّة كطَريفَة، وقيل: حَاويَاء كقَاصِعَاء.
وجوَّز الفَارِسيُّ أن يكون جَمْعًا لكلِّ واحدٍ من الثلاثة، يعني: أنه صَالِحٌ لذلك، وقال ابن الأعْرَابِيِّ: هي الحَويَّة والحَاوِيَة ولم يَذْكر الحَاويَاء.
وذكر ابن السَّكِّيت الثلاثة فقال: يقال: حَاويَة وحَوَايَا مثل زَاوَيَا ورَاوِيَة ورَوَايَا ومهم من يَقُول: حَويَّة وحَوَايَا؛ مثل الحَوية التي تُوضَع على البَعِير ويُرْكَبُ فَوْفَها، ومنهم من يَقُول لواحِدَتها: حَاوِيَاء وأنشد قول جَرَير: [البسيط]
تَضْغُو الخَنَانِيصُ والغُولُ الَّتِي أكَلَتْ ** فِي حَاويَاء رَدُومِ اللَّيل مِجْعَار

وأنشد ابن الأنْبَاري: [الطويل]
كَأنَّ نَفِيقَ الحَبِّ فِي حَاوِيَائِهِ ** فَحِيحُ الأفَاعِي أوْ نَقيقُ العَقَارِبِ

فإن كان مُفْرَدُها حَاوِيَة، فوزنها فواعِلٌ؛ كَضَاربة وضَوارب ونظيرها في المُعْتَلِّ: هي عَيْن الكَلِمة هَمْزة؛ لأنها ثاني حَرْفِي لين، اكتنفا مَدّة مفَاعِل، فاستُثْقَلت هَمْزَة مكْسُورة فَقُلِبت يَاءً، فاسْتثْقِلت الكَسْرة على اليَاءِ فجُعِلَتْ فَتْحَة، فَتَحرَّك حَرْف العِلَّة وهو اليَاءُ الَّتِي هي لامُ الكملة بعد فَتْحَةٍ، فقُلِبت ألِفًا فصارت حَوَايَا، وإن شِئْتَ قلت: قُلِبَت الواوُ هَمْزة مَفْتُوحة، فتحركت اليَاءُ وانفتح ما قَبْلَها فقُلبَت ألِفًا فصارت هَمْزَة مَفْتُوحة بين ألِفين يُشْبِهَانِها فقلبت الهَمْزَة ياءً، وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا في قول: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] واخْتِلاف أهل التَّصْريف في ذَلِك.
وإن قلنا: إن مُفْرَدها حَويَة فوزنها فعائل كَطَرائف، والأصل: حَوَائي فقُلبت الهَمْزَة ياءً مَفْتُوحة، وقلبت اليَاءُ التي هِيَ لامٌ ألِفًا، فصار اللَّفْظُ حَوَايَا أيضًا، فالَّفْظُ مُتَّحِد والعَمَل مُخْتَلِف.
قوله: {أوْ مَا اخْتَلَطَ بَعَظْم} فيه ما تقدّم في حَوَايَا ورأيُ الفرَّاء فيه: أنَّه مَنْصوب نَسَاقً على ما المسْتَثْنَاة في قوله: {إلاَّ ما حَمَلتْ ظُهُورهُما} المُرَاد به الألْيَة.
وقيل: هو كلُّ شَحْمٍ في الجَنْب والعَيْن والأذُن والقَوَائِم، والمحرَّم الثَّرْبُ وشَحْم الكُلْيَة.
قوله: {ذَلَك جَزَيْنَاهُمْ} فيه أربعة أوْجُه:
أحدهما: أنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: الأمْر ذلك، قاله الحُوفِيُّ؛ ومكِّي وأبو البقاء.
الثاني: أنه مُبْتَدأ، والخبرما بعده، والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: ذلك جَزَيْنَاهُمُوه، قاله أبو البقاء رضي الله عنه وفيه ضَعْف؛ من حيث إنه حَذَف العَائِد المنْصُوب، وقد تقدّم ما فيه في المَائدةَ في قوله- تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] وأيضًا فقدَّر العَائِد مُتَّصِلًا، ويَنْبَغي ألا يُقدَّر إلا مُنْفَصِلًا ولكنه يَشْكُل حذفه، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في أوّل البقرة.
وقال ابن عطيَّة: ذلك في مَوْضِع رَفْعٍ ولم يُبَيْنْ على أيِّ الوَجْهيْن المتقدِّمَيْن، ويَنْبَغي أن يُحَمَل على الأوَّل؛ لضعف الثَّاني.
الثالث: أنه مَنْصُوب على المَصْدَر، وهو ظاهر كلام الزَّمْخَشَري؛ فإنه قال: ذلك الجَزَاء جزيْنَاهُم وتَحْريمُ الطِّيِّبات، وإلا أن هذا قَدْ يَنْخَدِشُ بما نقله ابن مالك، وهو أنَّ المَصْدَر إذا أشِير إليه، وجب أنْ يُتْبَع بذلك المَصْدَرُ؛ فيقال: ضَرَبْتُ ذلِك الضَّرْبَ وقُمْتُ هذا القِيَامَ ولو قُلْت: ضَرَبْت زَيْدًا ذَلِك وقُمْت هذا لم يَجزْ، ذكر ذلك في الرَّدَّ على من أجَابَ عن قَوْل المُتَنَبِّي: [الكامل]
هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسا ** ثُمَّ انْصَرَفْتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسا

فإنهم لَحَّنوا المُتَنَبِي، من حيث إنه حَذَف حَرْف النِّدَاء من اسْم الإشَارة، إذ الأصْل: يَاهَذِي.
فأجابوا عنه: بأنَّا لا نُسَلِّم أن هَذِي مُنَادى، بل اسْم إشارة إلى المَصْدَر، كأنَّه قال: بَرَزْتِ هَذِي البَرْزَة.
فردّ ابن مالك هذا الجواب: بأنَّه لا يَنْتَصب اسْمٌ الإشَارة مُشَارًا به إلى المَصْدَر إلا وهو متبوعٌ بالمَصْدَر.
وإذا سُلِّم هذا فيكُون ظاهر قَوْل الزَّمَخْشَري: إنه مَنْصُوب على المَصْدَر مردودًا بما رُدَّ به الجوابُ عن بَيْت أبي الطَّيب، إلا أن ردّ أبن مالكٍ ليس بِصَحيح؛ لورود اسْم الإشارة مشارًا به إلى المَصْدَرِ غير مَتْبُوع به؛ قال الشاعر: [الطويل]
يَا عمْرُو إنَّكَ قَدْ مَلِلْت صَحَابَتِي ** وصَحَابَتيكَ إخَالُ ذَالكَ قَليل

قال النّحْويُّون: ذالك إشارةٌ إلى مَصْدَر خال المؤكِّد له، وقد أنْشَده هُوَ عَلَى ذلك.
الرابع: أنه مَنْصُوبٌ على أنه مَفْعُول ثانٍ قُدِّم على عَامِله؛ لأن جَزَى يتعدِّى لاثْنَين، والتَّقْدير: جَزيْنَاهم ذلك التَّحْريم، وقال أبُو القاء ومكِّي إنَّه في مَوْضع نَصْب بـ {جَزَيْنَاهُم} ولم يُبَيِّنَا على أيِّ وَجْهٍ أنتَصَب: هل على المَفْعُول الثَّانِي أو المصدر؟.
قوله: {وإنَّا لَصَادِقُونَ} مَعْمُولة مَحْذُوف، أي: لصادِقُون في إتمام جَزَائِهِم في الآخِرَة؛ إذا هو تَعْرِيضٌ بكَذبهم حَيْث قالُوا: نحن مُقْتَدُون في تَحْريم هذه الأشْيَاء بإسْرَائيل، والمعنى: الصَّادقون في إخْبَارنا عنهم ذلك، ولا يُقَدَّر له مَعْمُول، أي: من شأنِنَا الصِّدْق. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}
بيَّن أن ما حرَّم عليهم ضيَّعوه؛ إذ لمَّا لم يعاقبهم عليه لم يشهدوا مَكْرَه العظيم فيما ابتدعوه من قِبَلِ نفوسهم- فأهملوه ولم يحافظوا عليه، فاستوجبوا عظيم الوِزْر وأليم الهجر. اهـ.

.تفسير الآية رقم (147):

قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{وإنا لصادقون} أي ثابت صدقنا أزلًا وأبدًا كما اقتضاه ما لنا من العظمة، وتعقيبه بقوله: {فإن} أي وتسبب عن هذا الإيحاء الجامع الوجيز الدال على الصدق الذي لا شبهة فيه أنا نقول ذلك: {كذبوك فقل} والتعبير بأداة الشك مشير إلى أن الحال يقتضي أن يستبعد أن يقع منهم تكذيب بعد هذا {ربكم} أي المحسن إليكم بالبيان والإمهال مع كل امتنان {ذو رحمة واسعة} أي فهو مع اقتداره قضى أنه يحلم عنكم بالإمهال إلى أجل يعلمه.
ولما أخبر عن رحمته، نوه بعظيم سطوته فقال: {ولا يرد بأسه} أي إذا أراد الانتقام {عن القوم المجرمين} أي القاطعين لما ينبغي وصله، فلا يغتر أحد بإمهاله في سوء أعماله وتحقيق ضلاله، وفي هذه الآية من شديد التهديد ما لطيف الاستعطاف ما هو مسبوك على الحد الأقصى من البلاغة. اهـ.

.قال الفخر:

{فَإِن كَذَّبُوكَ} يعني إن كذبوك في ادعاء النبوة والرسالة، وكذبوك في تبليغ هذه الأحكام {فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة} فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ} أي عذابه إذا جاء الوقت {عَنِ القوم المجرمين} يعني الذين كذبوك فيما تقول، والله أعلم. اهـ.

.قال محمد بن أبي بكر الرازي:

فإن قيل: كيف قال تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} والموضع موضع العقوبة فكان يحسن أن يقال فيه: ذو عقوبة شديدة أو عظيمة أو نحو ذلك؟
قلنا: إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته، وذلك أبلغ في التهديد؛ معناه لا تغتروا بسعة رحمته فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم.
وقيل: معناه: فقل ربكم ذو رحمة واسعة للمطيعين ولا يرد عذابه عن العاصين. اهـ.